عند تعريف العلاقة بين المعرفة والبحث العلمي يجب القول بأن المعرفة هي: مجموعة من المعاني والمعتقدات والمفاهيم والتصورات الذهنية للإجابة على تساؤلات الانسان؛ لتشبع طموحاته وتحقق ابداعاته لما يريد ان يعرفه، وهي نتيجة لمحاولات الانسان المتكررة لفهم الظواهر والاشياء المحيطة به.
ولقد تميز الانسان باللجوء إلى العديد من مصادر المعرفة كسبيل لحل كثير من المشكلات التي يتعرض لها، سواء في حياته الشخصية أم في علاقاته بالبيئة المحيطة بـه ومـا تجلبه من مخاطر هو في حاجة إلى تلافيها ومن مصادر الحصول على المعرفة ما يأتي
مصادر الحصول على المعرفة
1 – الخبرة الشخصية
قد يحاول الفرد عندما تواجهه مشكلة أن يسترجع أو يبحث عن خبرة شخصية تساعده في حلها ، وعلى الرغم من أن الخبرة الشخصية تمثل طريقة نافعة وشائعة في الحصول على المعرفة و حل المشكلات، ولكنها قد تؤدي إلى نتائج خاطئة إذا استخدمها الإنسان من دون تمحيص.
وقد يرتكب بعض الأخطاء عندما يلاحظ شيئاً، أو عندما يتحدث عما يراه أو يفعله، وقد يتجاهل بعض الأدلة التي تتعارض مع رأيه
أو قد يستخدم أدوات قياس غير موضوعية وعلى جانب كبير من الذاتية، أو قد يبني رأيه على أدلة غير كافية، أو قد يستخلص نتائج أو ملاحظات غير صحيحة نتيجة لتحيزه الشخصي
لذلك ينبغي عليه إذا أراد أن يعتمد علـى الخبرة الشخصية أن يتخذ الاحتياطات الكافية التي تساعده على تجنب هذه السلبيات والتحيزات الشخصية.
2- السلطة و البحث العلمي:
كان الانسان ولا يزال يلجأ إلى السلطة في الحصول على المعرفة سابقا وفي الوقت الحاضر، وقد تطور هذا المبدأ وأصبح نظام المستشارين أو الخبراء
فكم من مسؤول في الحكم يسأل الخبراء في المجالات العلمية، ويعتمد الخبراء على التمحيص في اعطاء آرائهم ولا يتخذ الحاكم القرار بمعزل عن الخبراء.
وبدلاً من أن يحاول الانسان الوصول إلى الحقيقة وحده نجده يلجأ إلى رأي السلطات توفيراً للوقت والجهد. غير أن ذلك قد يؤدي إلى الخطأ، فعلى الفرد عندما يطلب النصح من السلطة أن يحتفظ لنفسه بحق تمحيص ونقد الآراء التي تصدر عنها؛ لكي يرى إن كان سيصل هو أيضاً إلى نفس النتائج أم لا.
ولتوضيح بعض المشكلات المرتبطة بالاعتماد على السلطة كمصدر للحصول على المعرفة نذكر قصة تروى عن أرسطو أنه قام في أحد الأيام بمسك ذبابة وأخذ يعد أرجلها مرة تلو الأخرى أمام بعض الحاضرين
وفي نهاية قيامه بهذه العملية أعلن لمشاهديه أن الذبابة لها خمسة أرجل فقط، وتقبل الجميع هذه النتيجة دون اعتراض، واستمر قبولهم لها لعدة سنوات تالية من دون مناقشة، لكونها صدرت عن أرسطو.
وبالطبع فإن الذبابة التي أمسكها أرسطو بالصدفة كانت إحدى أرجلها مفقودة، وسواء كنت من بين من يصدقون مثل هذه القصة أو يرفضونها، فإنها على الأقل توضح لنا محدودية الاعتماد التام على الخبرة الشخصية أو الثقة بين الأفراد أو السلطة كمصدر للمعرفة.
3- التفكير الاستنباطي (القياسي)
ظل التفكير الاستنباطي أهم طرق الحصول على المعرفة قروناً طويلة، ولايزال الإنسان يستخدمه حتى اليوم في حل مشكلاته الشخصية والمهنية، ففي التفكير الاستنباطي يقوم الإنسان بالاستدلال من العام إلى الخاص.
وفيه يربط بين الاشياء وعللها على أساس المنطق والتأمل الذهني، وعادة ما يبدأ هذا التفكير بالكليات ليصل منها الى الجزئيات إذ يرى أن ما يصدق على الكل يصدق على الجزء، أو أن الجزء يقع منطقياً في إطار الكل.
ويقوم هذا التفكير على “الانتقال من المقدمات الى النتائج، فاذا قبل الشخص المقدمات فإنه يقبل صحة النتائج ([1])“
فالقياس هو استدلال يشتمل على مقدمات ونتائج:: ويشتمل على مقدمتين كبرى وصغرى ونتيجة. مثال:
كل انسان مفكر … (مقدمة كبرى) احمد انسان… (مقدمة صغرى) اذا سقراط فان… (نتيجة) ففي هذا المثال عبارتان يفترض صدقهما ، بينهما ارتباط ما ، يحمل منطقياً نتيجة معينة، فاذا قبل شخص المقدمتين، وجب عليه ان يوافق على النتيجة التي تعقبهما.
4- التفكير الاستقرائي
يقوم هذا المنهج بعكس التفكير الاستنباطي، بالانتقال من الشواهد الى الحكم الكلي، إذ يتم فيه الاستدلال من الخاص إلى العام
ففيه يرتكز الباحث على التحقق بالملاحظة المنظمة الخاضعة للتجريب مع التحكم في المتغيرات المختلفة ليصل في النهاية الى قوانين عامة، حيث يجمع الباحث الأدلة التي تساعده على إصدار التعميمات من خلال ملاحظاته للجزئيات.
فاذا أراد الباحث أن يتوصل الى معرفة ذكاء طلاب صف فانه يمارس منهجه على النحو الاتي: يقيس ذكاء الطالب الاول فالثاني فالثالث حتى العاشر وبعد ان ينهي عملية القياس يصدر حكمه على ذكاء الصف فيقول صف ذكي أو صف غير ذكي.
ويحدثنا التاريخ ان ملكاً طلب من وزيره ان يكتب له على فص خاتمه كل الحيوانات التي تلد وكل الحيوانات التي تبيض، فتوصل من خلال الاستقراء الى قاعدة عامة يشمل بها كل الحيوانات.
وهذه القاعدة هي: ان كل أذون ولود وكل صبوخ بيوض، فاستطاع من خلال تتبعه لكل الحيوانات استقراء قاعدة عامة وحل المشكلة التي واجهته في طلب الملك.
وتبرز اهمية التفكير الاستقرائي في كونه يقدم للإنسانية شيئاً جديداً، ويُسهم في تطوير المجتمعات ونشر الثقافة والوعي والأخلاق القويمة فيها باستمرار.
وتزداد أهمية التفكير الاستقرائي كلما ارتبط بالواقع أكثر فأكثر، فيدرس مشكلاته، ويقدم الحلول المناسبة لها، فموضوع علم الآثار الذي ندرسه يحتل أهمية كبيرة بالنسبة لنا جميعاً، لأنه دائماً تظهر إلينا المزيد من المعلومات التي تكشف عن جوانب متعددة من حضارتنا عبر التاريخ.
ويميل البحث العلمي اليوم للتخصص ومعالجة أدق الجزئيات بالتفصيل، ويسلط الضوء على أسبابها وكيفية عملها ونتاجها، ويوازن بين الأمور ليبين صحيحها
ويهدف إلى إبراز حقيقة ما، أو يضع حلا لمشكلة ما: ثقافية، أو علمية، أو اجتماعية، أو أدبية، أو يتوصل إلى اكتشاف جديد، أو يطور آلة، أو نظرية معينة، أو يصحح خطأ شائعاً، أو يرد على أفكار معينة.
5 – مراحل التفكير الانساني
يرى أوغست كونت مؤسس علم الاجتماع الحديث ان الفكر الانساني مرَّ في تطوره بثلاث مراحل: تمثل الاولى المرحلة الحسية وهي المرحلة التي كان الانسان فيها يعتمد على حواسه، ما يراه ويسمعه دون محاولة معرفة العلاقات القائمة بين الظواهر.
أي انها مرحلة للوصف فقط وليست مرحلة للفهم. أما المرحلة الثانية فهي مرحلة المعرفة الفلسفية التأملية، أو مرحلة البحث عن الاسباب والعلل الميتافيزيائية البعيدة عن الواقع، ففكر الانسان في الموت والحياة والخلود وأصل الكائنات.
أما المرحلة الثالثة فهي المعرفة العلمية التجريبية، أو مرحلة نضج التفكير البشري وتفسير الظواهر تفسيراً علمياً وادراك ما بينها من الروابط .
([1]) ذوقان عبيدات و (آخرون) : البحث العلمي – مفهومه وأدواته وأساليبه، ط 11، عمان، دار الفكر، 2009، ص 29.