علم نفس الشخصية

نظرية التحليل النفسي عند فرويد

نظرية التحليل النفسي عند فرويد

في بداية الحديث عن نظرية التحليل النفسي عندما ظهر علم النفس كمبحث علمي مستقل في ألمانيا في منتصف القرن التاسع عشر حدد هدفه في تحليل الشعور لدى الإنسان الراشد السوي، وكان ينظر إلى الشعور بوصفه مكونًا من عناصر بنائية ترتبط ارتباطً وثيقًا بعمليات أعضاء الحس، فالإحساسات البصرية باللون مثلاً ترتبط بالتغيرات الكيميائية الضوئية الحادثة في شبكية العين كما ترتبط النغمات الصوتية بما يحدث في الأذن الداخلية.

وتنتج الخبرات المركبة من الالتحام بين عدد من الأحاسيس الأولية والصور والمشاعر، وكان هدف علم النفس هو اكتشاف العناصر الأساسية في الشعور وتحديد الكيفية التي تتكون بها مركباته وكثيرًا ما كان يشار إلى علم النفس بوصف الكيمياء العقلية، وقد لقي هذا النوع من علم النفس مقاومة من اتجاهات كثيرة ولأسباب مختلفة.

فقد كان هناك من يعارض قصر الاهتمام على البناء، ويصر إصرارًا شديدًا على أن أبرز خصائص العقل الشعوري هو عملياته الإيجابية وليس محتوياته السلبية وكان هؤلاء يؤكدون أن الموضوع الرئيسي لعلم النفس يجب أن يكون بمعناه الإيجابي الإحساسي وليست الأحاسيس، التفكير، وليست الأفكار، التخيل، وليست الصور، واعترض آخرون أن من غير الممكن تشريح الخبرة الشعورية دون تدمير جوهر الخبرة ذاته، أي خاصة الكلية.

وكانوا يذهبون إلى أن الفطنة الشعورية المباشرة تتكون من أنماط أو صياغات كلية وليس مجرد عناصر مضافة بعضها إلى بعض، كما أكدت جماعة أخرى كبيرة مرموقة أن العقل غير قابل للبحث بأساليب العلم ذلك أنه شيء شديد الخصوصية والذاتية وألحت هذه الجماعة على أن يحدد علم النفس بدلاً من ذلك بأنه علم السلوك.

أما هجوم فرويد على سيكولوجيا الشعور التقليدية، فقد جاء من اتجاه مختلف تمامًا، فقد شبه العقل بجبل من الجليد يمثل الجزء الصغير الطافي منه على سطح الماء منطقة الشعور على حين يمثل الجزء الأكبر الذي لا يطفو على سطح الماء منطقة اللاشعور.

وفي هذه المنطقة الفسيحة من الشعور توجد الدفعات الغريزية والشهوات والأفكار والمشاعر المكبوتة عالم سفلي شاسع من القوى الحيوية غير المرئية تمارس سيطرة طاغية على أفكار الإنسان وأفعاله الشعورية ومن وجهة النظر هذه يصبح علم النفس الذي يقتصر في تحليله على الشعور غير كاف لفهم الدوافع الكامنة لسلوك الإنسان.

ولقد عكف فرويد طوال ما يزيد على الأربعين عامًا على دراسة اللاشعور مستخدمًا  طريقة التداعي الطليق ليطور ما يعتبر بصفة عامة أول نظرية شاملة للشخصية، فحدد معالم أبعادها الطوبوغرافية، ونفذ إلى أغوار الينابيع التي تتفق منها طاقاتها، محددًا معالم طريق نموها، وبهذا الذي أنجزه متجاوزًا حدود التوقع أصبح فرويد واحدًا ممن يدور حولهم أقصى الجدل ويحدثون أكبر التأثير في العصر الحديث.

وسنقتصر في العرض التالي لأفكار فرويد على ما يتعلق منها بنظريته في الشخصية دون تناول نظرية التحليل النفسي في العصاب، والتي عرضها على أكمل وجه أوتو فينيكل (1945) كما أننا لن نعرض لأساليب التحليل النفسي. أو للتطبيقات الشاملة لعلم النفس الفرويدي في العلوم الاجتماعية والإنسانية والفنون، وكذلك فإن المجال لن يتسع للإشارة إلى تطور تفكير فرويد فيما يتعلق بالمفاهيم الأساسية لنظرية الشخصية عنده.

بناء الشخصية

       تتكون الشخصية من ثلاثة نظم أساسية: الهو Id والأنا Ego والأنا الأعلى Super Ego وبالرغم من أن كل جزء من هذه الأجزاء للشخصية الكلية له وظائفه وخصائصه ومكوناته ومبادئه التي يعمل وفقها ودينامياته وميكانيزماته، فإنها جميعًا تتفاعل معًا تفاعلاً وثيقًا، بحيث يصعب إن لم يكن مستحيلاً، فصل تأثير كل منها، ووزن إسهامه النسبي في سلوك الإنسان، إن السلوك يكون دائمًا في الغالب محصلة تفاعل بين هذه النظم الثلاثة، ونادرًا ما يعمل أحد هذه النظم بمفرده دون النظامين الآخرين.

 1- الهو:

    وهو النظام الأصلي للشخصية، وهو الكيان الذي يتمايز منه الأنا والأنا الأعلى ويتكون الهو من كل ما هو موروث وموجود سيكولوجيًا منذ الولادة بما في ذلك الغرائز، إنه مستودع الطاقة النفسية، كما أنه يزود العمليات التي يقوم بها النظامان الآخران بطاقاتها، والهو وثيق الصلة بالعمليات الجسمية التي يستمد منها طاقاته، ويطلق فرويد على الهو اسم “الواقع النفسي الحقيقي” لأنه يمثل الخبرة الذاتية للعالم الداخلي ولا تتوفر لد أية معرفة بالواقع الموضوعي.

  إن الهو لا قبل له بتحمل تزايد الطاقة التي يعانيها بوصفها حالات من التوتر غير المريح، ونتيجة ذلك، أنه عندما يتزايد مستوى التوتر لدى الكائن الحي، سواء أكان ذلك راجعًا إلى تنبيه خارجي، أم إلى تهيجات ناجمة عن الداخل فإن “الهو” يعمل بطريقة من شأنها تريغ التوتر مباشرة وعودة الكائن الحي إلى مستوى ثابت منخفض ومريح من الطاقة ويسمى مبدأ خفض التوتر الذي يعمل الهو وفقه “مبدأ اللذة”.

ولكي يحقق الهو هدفه في تجنب الألم وتحقق اللذة فإن عمليتين تعملان تحت أمره وهما “الفعل المنعكس” و “العمليات الأولية” إن الأفعال المنعكسة إرجاع ولادية وآلية كالعطس والغمز بالعين، وهي عادة تؤدي إلى خفض التوتر مباشرة، ويولد الكائن البشري مزودًا بعدد من مثل هذه الأفعال المنعكسة لمواجهة الأشكال البسيطة نسبيًا من الاستثارة. أما العملية الأولية فهي معقدة بعض الشيء.

إنها تحاول تفريغ التوتر بتكوين صورة لموضوع من شأنه أن يزيل التوتر، مثال ذلك، أن العملية الأولية تزود الشخص الجائع بصورة ذهنية للطعام، ويطلق على هذه الخبرة الهلوسية التي تتضمن حضور الموضع المرغوب فيه على شكل صورة من الذاكرة مصطلح تحقيق الرغبة.

وخير مثال للعملية الأولية لدى الأشخاص الأسوياء هو أحلام الليل التي يعتقد فرويد أنها تمثل دائمًا تحقيق أو محاولة لتحقيق رغبة وتمثل هلاوس المرضى الذهنيين وأوهامهم نماذج للعمليات الأولية، كذلك يتأثر التفكير الذاتي أو التفكير المرغوب تأثرًا بالغًا بفعل العمليات الأولية، إن هذه الصور الذهنية المستهدفة تحقيق الرغبة هي الواقع الوحيد الذي يعرفه “الهو”.

    ومن الواضح أن العملية الأولية في ذاتها غير قادرة على خفض التوتر فالشخص الجائع لا يمكنه أن يأكل الصور الذهنية للطعام، ونتيجة لذلك تظهر عمليات جديدة أو عمليات نفسية ثانوية، وعندما يحدث هذا فإن بناء النظام الثاني للشخصية، أي الأنا يبدأ في التكوين.

2- الأنا:

      يخرج الأنا إلى الوجود لأن حاجات الكائن البشري تتطلب تعاملات مناسبة إزاء عالم الواقع الموضوعي، فالشخص الجائع عليه أن يبحث عن الطعام وأن يحصل عليه وأن يأكله حتى يستطيع التخلص من التوتر الناتج عن الجوع، ويعني هذا أن عليه أن يتعلم كيف يفرق بين صورة عن الطعام مصدرها الذاكرة وبين إدراك فعلي للطعام كما يوجد في العالم الخارجي.

وما أن يتم هذا التمييز الحاسم حتى يصبح لزامًا عليه أن يحول الصورة الذهنية إلى إدراك، يتم بتعيين مكان الطعام في البيئة، بعبارة أخرى يضاهي الشخص ما لديه من صورة الذاكرة عن الطعام بمنظر الطعام أو رائحته كما يصلان إليه عن طريق حواسه إن الفرق الأساسي بين الهو والأنا هو أن الأول الهو لا يعرف إلا الواقع الذاتي للعقل فحسب، على حين يفر الأخير الأنا بين الأشياء التي توجد في العقل والأشياء التي توجد في العالم الخارجي.

إن الأنا يطيع مبدأ الواقع ويعمل وفق العمليات الثانوية، إن غاية مبدأ الواقع هو الحيلولة دون تفريغ التوتر حتى يتم اكتشاف الموضوع المناسب لإشباع الحاجة، إن مبدأ الواقع يرجئ مبدأ اللذة مؤقتًا، لأن مبدأ اللذة هو الذي يخدم في نهاية الأمر عندما يوجد الموضوع المرغوب فيه ومن ثم يخفض التوتر.

إن الذي يتناوله مبدأ الواقع في حقيقة الأمر هو: هل خبرة ما حقيقية أو زائفة أي: هل لها وجود خارجي أولاً، على حين يقتصر اهتمام مبدأ اللذة على احتمال أن الخبرة مؤلمة أو سارة.

إن العملية الثانوية هي التفكير الواقعي، فالأنا يكون بوساطة العمليات الثانوية خطة لإشباع الحاجة، ثم يختبر هذه الخطة عادة بوساطة فعل ما، فيرى: هل كانت صالحة أو غير صالحة، إن الشخص الجائع يفكر في المكان الذي يمكن أن يجد فيه الطعام ثم يشرع بعد ذلك في البحث في هذا المكان، وهذا ما يسمى “باختبار الواقع” ولابد للأنا للقيام بدوره بكفاءة من أن يسيطر على جميع الوظائف المعرفية والعقلية، إن هذه العمليات العقلية العليا توضع في خدمة العمليات الثانوية.

إن الأنا هو الجهاز الإداري للشخصية لأنه يسيطر على منافذ الفعل والسلوك ويختار من البيئة الجوانب التي يستجيب لها، ويقرر الغرائز التي سوف تشبع والكيفية التي يقوم بها ذلك الإشباع، ويجب على الأنا عند قيامه بهذه الوظائف الإدارية البالغة الأهمية أن يعمل على تكامل مطالب كثيرًا ما تتصارع فيما بينها وهي مطالب الهو والأنا الأعلى والعالم الخارجي إن هذا العمل ليس أمرا سهلاً وكثيرًا ما يكون عبثًا باهظًا على الأنا.

ويجب أن يكون واضحًا في أذهاننا بالرغم من ذلك أن الأنا هو ذلك الجزء المنظم من الهو، وأنه يخرج إلى الوجود ليحقق أهداف الهو ولا يحبطها، وأن كل قوته مستمدة من الهو، والأنا ليس له وجود منفصل عن الهو، كما أنه لا يمكنه الاستقلال التام عن الهو، وأن دوره الأساسي هو تلبية المطالب الغريزية للكائن الحي وفق ظروف البيئة المحيطة به، إن مهمته الأساسية هي المحافظة على حياة الفرد والعمل على تكاثر النوع.

3- الأنا الأعلى:

     إن النظام الثالث والأخير من الشخصية هو الأنا الأعلى إنه الممثل الداخلي للقيم التقليدية للمجتمع ومثله كما يفسرها للطفل والداه كما تفرض عليه بوساطة نظام من الثواب والعقاب، إن الأنا الأعلى هو الدر الأخلاقي للشخصية، وهو يمثل ما هو مثالي وليس ما هو واقعي، وهو ينزع إلى الكمال بدلاً من اللذة إن شاغله الأول أن يقرر هل كان شيء ما صائبًا أو خاطئًا حتى يستطيع التصرف بناءً على القيم الأخلاقية التي يمليها ممثلو المجتمع.

إن الأنا الأعلى بوصفه الحكم الخلقي الموصل للسلوك ينشأ استجابة للثواب والعقاب الصادر من الوالدين، لكي يحصل الطفل على الثواب ولكي يتجنب العقوبات فإنه يتعلم أن يقود سلوكه في الاتجاهات التي يحددها الوالدان وكل ما يدينه الوالدان ويعاقبانه على إتيانه ينزع إلى أن يستدخل داخل ضميره الذي يمثل أحد شقي نظام الأنا الأعلى

وكل ما يوافقان عليه ويثيبانه على إتيانه ينزع إلى أن يستدخل داخل أناه المثالي الذي يمثل الشق الآخر من نظام الأنا الأعلى ويطلق على الميكانيزم (الحيلة) التي تتم بها عملية الاستدخال هذه الاستدماج، إن الضمير يعاقب الشخص بأن يجعله يشعر بالإثم، ويثيب الأنا المثالي الشخص بأن يجعله يشعر بالفخر بنفسه، وبتكوين الأنا الأعلى يحل الضبط الذاتي محل الضبط الصادر عن الوالدين.

إن الوظائف الأساسية للأنا الأعلى هي:

  • كف دفعات الهو، وبخاصة تلك الدفعات ذات الطابع الجنسي أو العدواني، حيث أن هذه الدفعات هي التي يقابل التعبير عنها من المجتمع بأشد الإدانة والرفض.
  • إقناع الأنا بإحلال الأهداف الأخلاقية محل الأهداف الواقعية.
  • العمل على بلوغ الكمال، أي أن الأنا الأعلى يميل إلى معارضة الهو والأنا معًا، وإل تشكيل العالم على صورته، إلا أنه يشبه الهو في أنه غير منطقي، ويشبه الأنا في محاولته ممارسة التحكم في الغرائز، ويختلف الأنا الأعلى عن الأنا  في أنه لا يحاول فحسب إرجاء الإشباع الغريزي، بل إنه يحاول الحيلولة دونه على الدوام.

وفي ختام هذا الوصف الموجز للنظم الثلاثة للشخصية، يجب أن نوضح أن الهو والأنا والأنا الأعلى يجب ألا ينظر إليهما بوصفها دمى تحرك الشخصية، فهي مجرد أسماء لعمليات سيكولوجية مختلفة تعمل وفق نظم تختلف مبادئها، وفي الظروف العادية لا تصطدم هذه المبادئ بعضها بالبعض الآخر

كما أنها لا تعمل لتحقيق أغراض متعارضة بل على العكس أنها تعمل متآزرة كفريق تحت القيادة الإدارية للأنا، إن الشخصية تعمل في الظروف السوية بوصفها كلاً لا بوصفها ثلاثة قطاعات مختلفة، وبصورة عامة للغاية يمكننا النظر إلى الهو بوصفه المكون البيولوجي الحيوي من الشخصية والأنا بوصفه المكون النفسي والأنا الأعلى بوصفه المكون الاجتماعي [1].

المراجع

  1. Lester, D. (2019). Theories of personality: A systems approach. Routledge.‏
السابق
مقياس التوحد الطفولي کارس (CARS)
التالي
مفهوم التعلم وعلاقته بالمفاهيم الأخرى

اترك تعليقاً