علم النفس

تطور علم النفس وتاريخ تطوره

تطور علم النفس وتاريخ تطوره

لقد قيل عن تطور علم النفس كما يقرر “ابنجهاوس” (أن له ماضياً طويلاً، ولكنه تاريخاً)، ولقد كانت كتابات وتأملات الفلاسفة في العصور التاريخية المختلفة تنطوي على الكثير من المفاهيم السيكولوجية وعلى الكثير من التصورات التي تحاول تفسير الظواهر النفسية

بل ويرتبط ذلك التأمل النفسي بالوجود الانساني ذاته – فهو قديم قدم الانسان الذي يحاول أن “يعرف نفسه” وأن يفهم طبيعته الانسانية، ويتأمل يما صدر عنه وعن الآخرين من تصرفات.

وعلى الرغم من ذلك يعتبر علم النفس علما يافعاً إذا قارناه بالأنظمة العلمية الأخرى، فلم يظهر المتخصصون في علم النفس ولا الكتاب والباحثون الذين اعتبروا أنفسهم “علماء النفس” حتى نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تقريباً

ومع ذلك فقد تأثر الفكر السيكولوجي بتصورات فلسفية ومنجزات علمية أدت إلى بلورة هذا الفكر وإلى نشأة علم النفس الحديث كعلم له هويته بين الأنظمة المختلفة.

لذا ارتبط التطور التاريخي لعلم النفس الحديث بمدارس مختلفة تناولت الظواهر النفسية بمنظور آخر، هذه المدارس المختلفة عكست خلفيات ثقافية واجتماعية وتاريخية مختلفة، الأمر الذي تمخض عن تصورات ونظريات وتفسيرات ومفاهيم مختلفة متناقضة في بعض الأحيان للظواهر النفسية، كما تمخض عن تباين شديد في الإجراءات المنهجية المستخدمة في البحث.

ونعرض فيما يلي لتطور علم النفس في جانبين:

  • (أ) الارهاصات الأولى للفكر السيكولوجي: (الطور الفلسفي– الفسيولوجي) في تاريخ علم النفس.
  • (ب) تطور علم النفس كعلم، وهو الطور التجريبي أساساً في تاريخ علم النفس.

وما جرى بين هذين الطورين من تداخل وتفاعل يصعب معه الفصل بينهما على نحو قاطع.

  • (أ) الارهاصات الأولى للفكر السيكولوجي: (الطور الفلسفي – الفسيولوجي في تاريخ علم النفس):

خضع علم النفس في بدايات تكوينه الجنيني لمؤثرات فلسفية وأخرى فسيولوجية، كانت بمثابة الخطوات الأولى تلمسها العلماء في سبيل بناء جسم جديد من المعرفة.

1- المؤثرات الفلسفية:

يتحدد التطور الفلسفي في تاريخ علم النفس بالفترة من “ديكارت” (1650) حتى “فختر” (1860)، وهي فترة نشأة العلم الحديث. فمع بداية القرن السابع عشر بدأ بعض الفلاسفة، وعلى رأسهم ديكارتن بالثورة على ذلك النوع من علم النفس الذي تناقلته الأجيال عن فلاسفة الاغريق.

ورغم أن هذه الثورة لم تسع إلى تحرير علم النفس من سيطرة الفلسفة، إلا أنها حاولت ربط الفكر السيكولوجي بالتطورات الجديدة السريعة في علوم الفيزياء. هذه التطورات الثورية قد جرت في الفيزياء والفلك ارتباطاً إلى حد ما بمحاولات جاليليو وغيره في وصف العمليات الفيزياء على أساس قوانين الحركة والقصور الذاتي. وبالتالي تميزت هذه المرحلة بمحاولة تطبيق الفيزياء الجديدة على فهم السلوك الانساني والحيواني.

وكانت التجربة empiricism  هي الاتجاه العام للعلم في القرن السابع عشر – وهو اتجاه يربط العلم أساساً بالملاحظة أكثر منه بمعتقدات فلسفية جامدة (الدوجما) أو بالسلطة، وهو اتجاه ينطوي على عدم ثقة بالماضي، وعلى رغبة في التجديد، اتجاه يتلمس التحرر من الافتراضات القبلية الفلسفية، اتجاه يولى الثقة الأكبر لما حققته العلوم الفيزيائية والفسيولوجية من تقدم.

تلك ولا شك حقبة هامة في تاريخ العلم عامة، تغير فيها المناخ الذي يمكن أن يهيئ للبحث العلمي وأن يساعده على الازدهار.

وبالرغم من أن هذه الحقبة لم ترتبط في معظمها ارتباطاً مباشراً بتطور علم النفس، إلا أن “ديكارت” قد أسهم بصورة مباشرة في تطور تاريخ علم النفس الحديث، لقد حاول ديكارت تحرير البحث من العقائد والقوالب التقليدية الفلسفية الجامدة التي سيطرت على الفكر الانساني بقرون طويلة،

فلم يحدث منذ أرسطو أن كون فيلسوف نظاماً جديداً مؤثراً من الفكر يضع في الاعتبار مجموع المعرفة التي نمت في غضون ألفي عام على نحو هائل” لذا يعتبر “ديكارت” انتقاله من عصر النهضة إلى الفترة الحديثة للعلم، كما يمثل بدايات علم النفس الحديث.

وقد شهد هذا التطور الفلسفي في تاريخ علم النفس بعض التصورات التي حاولت تفسير التكوين العقلي للإنسان وما يرتبط به من سلوك، في مقدمة هذه التصورات – نظرية الملكات.

سيكولوجية الملكات Faculty Psychology:

ترجع إلى المدرسية الفلسفية في العصور الوسطى، وخاصة إلى “سانت أوغسطين” و”توماس أكويناس”، وظلت سائدة حتى أواخر القرن التاسع عشر.

وتمثل سيكولوجية الملكات موقفاً فلسفياً مناقضاً للمدرسة الترابطية من أوجه كثيرة، فهي تصف الفرد على أنه يتكون من عدد من الملكات الفطرية التي تؤلف عقله، وهي تبلغ ما يقرب من ثلاثين ملكة مثل ملكة الذاكرة والتخيل والحكم والانتباه والارادة، الخ.

وإذا كانت المدرسة الترابطية تذهب إلى أن الفروق الفردية تعزي إلى الخبرة أساساً، فإن نظرية الملكات تزعم أن الفروق في التكوين العقلي منذ الميلاد كانت العوامل الأكثر أهمية في تحيد السلوك العقلي، بل لقد ذهب بعض أصحاب هذه النظرية إلى ان هذه الملكات ترتبط ارتباطاً مباشراً بحجم أجزاء معينة من الدماغ.

فإذا تحسسنا نتوءات الرأس، يكون الجزء الأكثر بروزاً هو الأكثر نمواً، ويعبر ذلك عن اتجاه لا علمي في التعرف على الشخصية من نتوءات الرأس، وغيره من الاتجاهات القائمة على الفراسة Phrenology.

وكان لسيكولوجية الملكات انعكاسات واضحة على التربية فيما يعرف بنظرية التدريب الشكلي Formal discipline التي ترى أنه يمكن تدريب أي ملكة بصرف النظر عن طبيعة المادة المستخدمة في ذلك التدريب.

ورغم أن التصورات القائمة على الفراسة لم تعد تلقي تأييداً من العلوم النفسية، إلا أن تأثير فكرة الفروق الفطرية قد انتقلت إلى الدراسات الحديثة في الفروق الفردية وفي الشخصية، “فقد اعتبرت الملكات على أنها مرادفات للسمات والعوامل التي تظهر دائماً في التحليل الاحصائي لدرجات الاختبارات إلا ان هذه العوامل التي تنتج تجريبياً تختلف في نواحي هامة عن الملكات التي استنتجت في الفلسفة المدرسية”.

2- المؤثرات الفسيولوجية:

يأتي الكثير من ميراث علم النفس من الفسيولوجيا، ولكن بينما كان الفلاسفة الأوائل يمهدون الطريق لهجوم تجريبي على توظيف العقل، كانت هناك مجموعة أخرى من العلماء تحاول التصدي لنفس المشكلات من وجهة أخرى تماماً.

فقد حقق الفسيولوجيون الأوائل خطوات هائلة تقدموا بها نحو فهم الميكانزمات العصبية التي تكمن وراء العمليات العقلية، كانت تختلف بجلاء عن طريقة الفلاسفة.

ومما تجدر الاشارة إلية في هذا الصدد أنه يوجد بين علماء النفس بعض من عدم الاتفاق بشأن تأثير الفسيولوجيا على علم النفس، يذهب “ماركس وميلليكس” (1963) إلى أن الفسيولوجيا قد لعبت دوراً مباشراً ضئيلاً للغاية.

ولهلم فونت

فلقد سمي “ولهلم فونت” – وهو العالم الذي اعتبر عامة أبو علم النفس التجريبي – إسهاماته في علم النفس الفسيولوجي التجريبي، رغم أنه لم يكن هناك حقيقة تجريب فسيولوجي في برنامج بحوثه، ويرى “ماركس وميلليكس” أن علم النفس سعى إلى أن يربط نفسه باسم “الفسيولوجيا” فقط بسبب ما تحظى به الفسيولوجيا من مكانة.

وهي مكانة طالما سعى علم النفس وخاصة في سنواته الأولى في سبيل الوصول إليها والحظوة بها، “ومن ثم كانت الفسيولوجيا غالباً ولا زالت حتى اليوم، الملاذ الذي يتوسل إليه للإفصاح عن امكانية الاحترام العلمي لعلم النفس عامة ولنظريات معينة بصفة خاصة”.

ومهما يكن من أمر الدور الذي لعبته الفسيولوجيا في علم النفس الجديد في الفترة السابقة لظهوره كعلم تجريبي، فقد تكرس علماء الفسيولوجيا على دراسة مشكلات ذات ارتباط وثيق بمشكلات علم النفس، نذكر منه اسهامات العالم الألماني “فختر” (1801- 1887).

وخاصة في محاولات تحديد علاقة كمية بين العقل والبدن، ودراسة الاحساسات وغير ذلك من برامج بحوثه في الفيزياء النفسية”، Psychophysics، وربما كان نشر “تشارلز دارون” لكتابه “أصل الأنواع” في عام 1859 هو أعظم تأثيرات الفسيولوجيا على علم النفس في مراحله التاريخية الأولى، بل واستمرت تؤثر بعمق في نظريات علم النفس الحديث والمعاصر.

الدارونية Darwinism:

 كان للقوانين التي انطوت عليها نظرية التطور عند “دارون”، مثل قوانين النشوء والارتقاء النوعي وقوانين الانتقاء الطبيعي، أثر بالغ على اتجاهات البحث في كل علوم الحياة، لقد اعتبرت هذه القوانين الانسان على أنه الناتج النهائي لتغير طويل وبطيء، من أكثر أشكال الحياة بدائية.

وقد كان للدارونية تأثير كبير آخر على علم النفس والعلوم المتصلة به، فقد اعتبرت الانسان كحيوان أكثر تعقيداً في سلسلة متصلة مع الأشكال الأخرى للحياة، بدلاً من أن تعتبره كنمط معين من الكائنات الحية ذي مقدرات خفية لا يمكن دراستها وفهمها.

وكان من أثر الدارونية أن صار ينظر إلى الانسان كاستمرار للأشكال الأخرى من الحياة، على أنه كائن حي، شأنه شأن الحيوانات، يتعرض لنفس المؤثرات والعوامل.

السابق
أهمية تطبيقات الحوسبة السحابية في التعليم
التالي
الوعي بالجسم ومراحلة لدى أطفال الروضة

اترك تعليقاً